لم يكن مفاجئاً أن يلتهم بند الإنفاق الجاري جلّ الـ 3 تريليونات ليرة سورية كرقم إجمالي لموازنة العام القادم، الخارجة للتو من المطبخ الحكومي كأكبر موازنة في تاريخ البلاد، لأن استحقاقات هذا البند تبدو كبيرة جداً في ظل جائحة التضخّم التي اعترت ليرتنا، لأسباب ذات صلة بالأزمة من جهة، وأخرى تتعلّق بأخطاء الإدارة النقدية السابقة، لذا نعتقد أن للشأن الاستثماري – وهو بالغ الأهميّة – حديثاً آخر، فهو لن يقبل المعالجة الحصرية في قوام الموازنة العامة، كما أنه ليس مهمة حكوميّة خالصة، بل مجتمعيّة تعني الدولة بكل قطاعاتها العامة والخاصة والأهليّة، وهنا مطرح التحدّي الذي ينتظر ترتيبات هادئة لكن غير بطيئة فالوقت لا ينتظر.الواقع أنه ليس من الحكمة أن نعوّل على البند الاستثماري في الموازنة العامة في مثل الظرف الاستثنائي الذي نقف على عتبته اليوم، لأسباب لا تتعلّق بالأزمة بل باستحقاقات ما بعدها، فعلى الأرجح أو ربما الأكيد أن العام 2018 سيكون سنة التعافي الأولى في رحلة إعمار لا نعتقد أنها ستكون قصيرة، وهذا يعني أن الـ 3 تريليونات المعلنة عبارة عن جزء يسير في حسابات تمويل الإعمار، لاسيما وأننا ما زلنا مشدوهين أمام تقديرات رسميّة أولية “طازجة” زادت عن 43 تريليون ليرة كفاتورة وعبء رتبه الدمار المباشر الذي خلّفه الإرهاب في ممتلكات القطاع العام لوحده، وثمة أرقام جديدة إضافية ربما لن تتأخر في تقديم نفسها لمن سيتحرى عن التفاصيل .الحكومة اختارت “الإنتاج” عنواناً بالغ الأهمية والحساسية لمسعاها في العام القادم، وهذا لن يكون متاحاً تماماً من خلال اعتمادات الموازنة العامة، حتى لو أدى الإنفاق الجاري إلى نهايات وخلاصات إنتاجية، لكن ذلك لن يكون كافياً لإرساء مطارح إنتاج حقيقي ولو بالأحرف الأولى للمفهوم وتطبيقاته الأفقية، لذا لا بد من الإشراك الممنهج للقطاع الأهلي أفقياً، والخاص الممأسس في البعدين الأفقي والعمودي، وهذا ما يجب أن يكون من صلب السياسات الحكومية الرشيقة للعام 2018 وما يليه.في ديارنا “أطنان” من الأموال، حتى في أريافنا الموصومة بداء الفقر وتوابعه القاسية، ثمة كتل نقدية كبيرة متفرّقة لدى حائزين ليس لديهم الدراية والتدبير الاستثماري، فاختاروا إما إنفاقاً ترفياً من وحي الاستعراض و التعويض، أو دفن ما بحوزتهم “تحت البلاطة” كما يقال، وفي كلا الحالتين نبدو أمام فوات فرص تنموية كبيرة، لأن السيولة النقدية هي وقود التنمية ومكانها الطبيعي ليس في المخابئ السرية ولا حتى في الصناديق المصرفيّة الصمّاء.ننتظر الآن وعلى وجه السرعة خطّة شاملة تتضمن رسائل توعوية إعلامية ودراسات جدوى مناطقية على أساس الميزات النسبية لمشروعات صغيرة ومتناهية الصغر، تضمن التوظيف الاقتصادي والاجتماعي الأمثل لهذه الكتل المبعثرة، من خلال تحفيز الذهنيّة الاستثمارية لدى بسطاء اعتادوا الادخار لمجرّد الادخار.ولعلّه من الضروري مزامنة الإعلان عن رقم الموازنة الجديدة، مع برنامج تنموي شامل يحرّض الرساميل المتموضعة خارج القنوات الرسمية على الاستثمار الحقيقي، فمهما استجمعنا وحشدنا ما تيسّر لنا من تريليونات في موازنتنا، لن تكون كافية للنهوض بالعبء التنموي، لأن الرقم وإن كان الأكبر في سجل خزينتنا، سيكون الأقل والأصغر في حسابات “المقاصّة” وسعر الصرف أمام أي من العملات الأجنبية، فلا مناص من “نبش” المليارات المخبأة، وعلينا ألا نعدم الوسيلة.
التاريخ - 2017-10-08 2:45 PM المشاهدات 448
يسرنا انضمامكم لقناتنا على تيلغرام : انقر هنا