"ما زالَ طيفها معي"
تحدثَتْ أمامي بالكثير من المواضيع غير المرتبطة ببعضها دون أن تنهي أياً منها، هززتُ برأسي المستند إلى يدي المستندة إلى مرفقي فوق الطاولة كالعادة موافقاً وأنا أراقب حركات يديها في الهواء وإيماءات وجهها وتحركاتها فوق الكرسي وهي تعبّر عن كل موقفٍ تتحدث عنه وكأنها ترسم أمامي له صورةً بأصابعها و تعابيرها.. يا إلهي كم هي بارعةٌ في التعبير بالحركات..
- ما رأيك؟ سألتني للمرة الثانية وعيناها تتعلقان بوجهي تنتظران مني إجابة..
- رأيي بماذا؟
رفعَتْ حاجبها الأيسر ولوَت فمها نحو اليمين كعادتها حين تُستَفز.. غمازةٌ تحفر قلبي ظهرَتْ هناك، ابتسمتُ لها..
- هل كنتِ تظنين بأني أسمع كلامك؟
- لماذا تتركني أتحدث إذا؟ قالتها ورسمتْ عقدةً بين حاجبيها.
- أحب رؤيتكِ تتحدثين.. لا أستطيع أن أراك وأسمعكِ في نفس الوقت..
رأيتُ العقدة تُفَكُ قليلاً، ابتسامةٌ راضيةٌ شقتْ طريقها هناك على حافة الفم اليسرى.. حاولَتْ أن تكتمها لكنها اكتملتْ مع هزة رأسٍ تعني ( ما أقواك ) .. كم هن بسيطات، قل لها أي عبارةٍ تحوي كلمة حب وسترضى عنك بلحظة.. نظرتُ إلى ساعتي.. نظرَتْ معي..
- هل ستذهب؟
- لا لن أذهب
- لماذا تنظر إلى الساعة إذاً؟
- حركةٌ لا إرادية
- تدل على الملل؟
- لا أملُّ منكِ أبداً
- بدليل أنكَ لم تكن تسمع حديثي!
- قلتُ لكِ بأني أحبُ رؤيتكِ تتحدثين
- لكنكَ لا تهتم لما أقوله، أليس كذلك! ياله من تبرير.
- لماذا تقلبين الأمور.. كنتِ راضيةً قبل لحظات
- راضيةً عن ماذا؟ هل تسمع نفسك؟ تخبرني بأنك تحب شكلي ولا تهتم لحديثي؟ هل أنا غبيةَ مثلاً؟
- ما بالك!! مالذي جرى؟ قلتها مستغرباً
- هيا قم وارحل مادمتَ لا تملك الوقت لتجلس معي وتسمعني.
- من قال أني لا أملك الوقت؟
- أنت
- أنا؟ متى قلتها!
- نظرتَ إلى الساعة
- اقتربي.. أمسكتها من أذنها ورفعتُ يدي اليسرى التي أضع فيها ساعتي نحو وجهها فضربَتْ يدي متوترة..
- ما بك.. إن لمستَ أذني مرةً أخرى فسأ... متوقفة؟ لماذا تلبس ساعةً متوقفة عن العمل؟
- لا أرتديها إلا حين نكون معاً.. أخاف مرور الوقت بجانبك..
هدأتْ قليلاً.. ورود الخجل ازهرتْ على محياها، طلبتْ مني أن أحلف لها بأنّ ما أقوله حقيقي، أخبرتها بأني لا أملك عادة الحلفان ولا أستسيغها.. نظرَتْ إلى ساعتها، توترَت فجأةً.. وقفَتْ على عجل، لملمَتْ أغراضها المتناثرة فوق الطاولة ووضعتها في حقيبتها..
مضَتْ أمامي دون أن تودعني، صوت إطارات سيارة وصراخ في نهاية الشارع.. نظرتُ إلى ساعتي، عادت للعمل من جديد..
ذات الموقف يتكرر معي في كل مرة سيدي الطبيب.. أجلس إلى الطاولة في نفس الكافتيريا.. يسألني النادل عما أود أن أشرب، أطلب فنجاني قهوة بدون سكر، تأتي هي لتجلس أمامي، تتحدث دون أن أسمعها، تمضي، يصرخ الناس، أدفع الحساب ويرفع النادل فنجان قهوتها الممتلئ كما جاء، يسألني نفس السؤال في كل مرة..
- أستاذ .. هل تنتظر أحد ؟
#عبدالله نضال الجراد
يسرنا انضمامكم لقناتنا على تيلغرام : انقر هنا