حين يُقيم الفقر والبطالة في بلد ما، لا شكّ أنهما سيُفرزان ظواهر وسلوكيات سلبية بين الناس تتسم بالدونية والوضاعة، كما تَشيع أنواع مختلفة من التجارة الممتهنة كرامةَ الفرد وإنسانيته، وبالتالي خلخلة مجمل القيم الأخلاقية في المجتمع.لقد شهد، بل عاش وعانى المجتمع السوري ما قبل الحرب بعقود أزمات معيشية متعددة نتج عنها ارتفاع منسوب الفقر بين شرائح المجتمع الذي افتقد إلى الطبقة الوسطى جرّاء البطالة والغلاء والجفاف، وتخلّي الدولة عن بعض مسؤولياتها التي يفرضها العقد الاجتماعي بينها وبين مواطنيها، بحسب صحيفة الحياة اللبنانية.وحين حلّت الأزمة السياسية التي أفضت إلى حرب طاولت نيرانها البشر والحجر ولا تزال، تفاقم الفقر والبطالة وبلغا مستويات خيالية لم نكن نتوقعها يوماً، مثلما تفاقم النزوح والتشرّد بكل ما يحملانه من مآسٍ وويلات زاد من منسوبها ارتفاع الأسعار إلى مستويات مرعبة، أدت إلى انحدار شرائح غير قليلة إلى قاع الجوع والتسوّل.وعلى رغم أن التسوّل من أقدم المظاهر السلبية في مجتمعات تفتقر إلى العدالة الاجتماعية، إلاّ أنه أصبح في العقود الأخيرة مهنة تقودها شبكات وعصابات محلية تستغل حاجة الفقراء من أطفال ونساء وحتى شباب، لاسيما في ظل كوارث وأزمات وحروب كالتي تشهدها سورية، حتى بتنا لا نستطيع التمييز ما بين متسوّل لصالح عصابة، ومتسوّل بحاجة لثمن رغيف خبز، إذ غالباً ما ترى الأطفال المتسوّلين موّزعين بين الأزقة والشوارع والأنفاق، ليقول لك أحدهم إنه لا يستطيع العودة قبل أن يجمع مبلغاً محدداً فرضه عليه من يدعوه (عمو)، وهو بالتأكيد زعيم عصابة تستغل أولئك الأطفال، لاسيما الذين فقدوا ذويهم فباتوا عُزّلاً من كل شيء إلاّ قهرهم وضعفهم وتشرّدهم، وبالتالي تعرّضهم لعدد من الانتهاكات والاستغلال من قبل ذوي النفوس والأخلاق المريضة المشوّهة، أمثال هذه العصابات، ونزوعهم نحو سلوكيات سلبية تفرضها حالتهم تلك بما تُنمّيه في داخلهم من أمراض وعُقد نفسية بعيدة المدى.ولعلّ أولئك الأطفال الذين نراهم يبيعون المحارم الورقية وما شابه ضمن فريق مُصغّر، هم أحد أوجه هذا الاستغلال أيضاً، يُضاف إليهم أطفال ويافعون جعلوا من الشوارع والمنصفات منامة لهم في استعطاف مبتذل للناس، يشترك معهم فيها بعض كبار السن من الجنسين، إذ بات هذا المشهد عادياً يستقبلنا كل صباح. ولا يقلُّ عن هذا ما نراه من شباب مشوّهين أو ممن يبدون مبتوري الساق على كرسي متحرّك، في محاولة لاستجداء عطف الناس وتسوّل بعض المال، في حين يغافلونك ويبدّلون وضعيتهم لتجد في ما بعد أن الطرف الآخر هو المبتور.. وهكذا.في المقابل، نرى أطفالاً من الذين غصّت بهم أماكن سكناهم وضاقت مع أُناس آخرين اضطروا لاستئجار غرفة واحدة تحت ضغط الارتفاع المرعب لبدلات الإيجار في المناطق شبه الآمنة، حيث يتسوّلون من تلقاء أنفسهم كي يبتاعوا بعض المأكولات التي يشتهونها ولا يستطيع الأهل تأمينها لهم، في ظل غياب رقابة ذويهم المنشغلين بتأمين القوت اليومي وتكاليف الإيجار. ومنهم أيضاً من يدفعهم ذووهم للتسوّل من أجل المساهمة في تأمين المستلزمات الأساسية والضرورية للبقاء على قيد حياة باتت شّاقّة وذليلة في ظل الفقر والبطالة، وسيطرة تجّار الحروب وأمرائها على كل ما يحتاج إليه الناس.وهناك حالات أخرى أكثر فظاعة ووحشية تتمثّل باستغلال بعض النساء غالباً، أو الرجال أحياناً أطفال غير قادرين على التجوال بمفردهم، أطفال ربما تمّ خطفهم أثناء نزوح ذويهم من مناطق الحرب، أو آخرون تاهوا عن ذويهم الذين تشتتوا في كل بقاع الأرض، ففي حادثة أثارت الرأي العام المحلي في إحدى بلدات ريف دمشق الشتاء الفائت، قدمت امرأة من منطقة بعيدة، وخطفت أطفالاً من البلدة وجمعتهم في غرفة بائسة وظروف معيشية سيئة، من أجل استخدامهم في عملية التسوّل اليومي، لتبدو أمّاً متسولة تطلب طعاماً لأولادها (وكثيراً ما كان المُنادي يُسمع مُعلناً عن فقدان طفل أو طفلة).هذا المشهد لأولئك النسوة بات طاغياً في شوارع المدن، ومنها دمشق، التي تغص بعدد منهن مع أطفال رُضّع يفترشن الطرق في مناخ بارد أو حّار، لا يمكن أماً حقيقية أن تترك أطفالها معرّضين له.وما يُثير الانتباه أيضاً، أننا بتنا نرى فتيات بمظهر ولباس طبيعي من مختلف الأعمار يتسوّلن، ولم نكن لنعرفهن لولا أنهن يحملن لافتات تشرح حاجتهن، أو سيدة بأناقة مقبولة لا توحي لك بإمكان تسوّلها، لكنها تطلب من المّارة على انفراد ثمن تذكرة سفر أو وصفة طبية وإلى ما هنالك من حاجات تخترعها، وحين تعود إلى المكان بعد مدّة زمنية غير قليلة تجدها تؤدّي الدور عينه.في المقابل، نجد في الأسواق نسوة وضعن أمامهن كمية قليلة من الخضار أو الفواكه، قد لا تتجاوز بضع كيلوغرامات، لبيعها وبأسعار أدنى قليلاً من أسعار السوق، أو أخريات يبعن علب المحارم الورقية أو العلكة أو الصابون، في محاولة بائسة ويائسة لجذب الناس وتأمين ثمن ربطة خبز لأولادهن. وهناك أيضاً من تستجدي بعض الألبسة والأحذية لستر نفسها وأولادها، فتبيعها في أماكن أخرى لتستطيع تأمين قوت أطفالها.هذا المشهد السوري المؤلم والمُفجع في صدقه، والمُخزي حين يتحوّل إلى تجارة، سواء قبل الحرب أو أثنائها، جعلنا نتخبّط بين إنسانيتنا المتعاطفة مع أُناس خذلتهم الحياة والحكومة، فلم يعودوا في ظل ما كان وما يجري اليوم بقادرين على تأمين عمل يقيهم ذلّ السؤال، وبين محتالين فقدوا احترام الذات فوجدت العصابات فيهم أداة ووسيلة لكسب المال من دون جهد أو عناء، مستغلة بطالتهم أو تقاعسهم، في وقت بات معظم السوريين في حاجة للمساعدة، بمن فيهم أصحاب الدخل المحدود والمهدود.سورية الحدث
التاريخ - 2016-06-08 11:21 PM المشاهدات 985
يسرنا انضمامكم لقناتنا على تيلغرام : انقر هنا