بات واضحًا اكثر من اي وقت أنّ الوصول الى حل سياسي للأزمة السورية هو مجرد كلام "لا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ"، ولا يمكن لأحدٍ الكلام عن سبب واحد او مجموعة محدودة من الأسباب تمنع الوصول الى هذا الحل السياسي المرجو، فالأزمة في سوريا وصلت في تداعياتها الى مستوىً غير مسبوق من التعقيد تتداخل فيها وتتشابك مصالح القوى الإقليمية والدولية، الى درجةٍ يمكن ان تأخذ الأمور الى الهاوية اذا لم تتوفر لدى كل الأطراف ارادة جدية للشروع في حل حقيقي.والسؤال البديهي الذي يمكن ان يتبادر الى الأذهان هو: ألم تصل الأمور بعد الى الهاوية، وهل سنشهد مزيدًا من العنف اكثر ممّا نشهده اليوم؟والجواب ببساطة قد لا يكون مريحًا للغالبية الساحقة من السوريين الذين يأملون الخلاص من هذه الحرب المدمّرة، وهو أنّ المرحلة القادمة من جولات الحرب ستكون اكثر قساوة من اي وقت مضى، بسبب محاولات القوى الإقليمية الرئيسية وبشكل خاص تركيا والسعودية ومن ورائهما اميركا وسعيها الى تعديل ميزان القوى لمصلحة الجماعات المسلحة، او أقلّه تثبيت الستاتيكو الحالية على ما هي عليه من خرائط سيطرة للضغط على الدولة السورية وحلفائها لإنتزاع تنازلات تخالف قوانين الصراع، والتي برأيي لن تُنتج لهذه القوى الإقليمية واقعًا جديدًا لمصلحتها سوى المزيد من الفوضى والدمار والدم.في العنوان الرئيسي، الجانب الأميركي حتى اللحظة هو اكبر الرابحين، فالفوضى السائدة يبدو انها دون أفق معلوم وهو ما يعتبره الأميركيون نصرًا لنظرية "الفوضى الخلاقّة" التي اطلقوها كبديل لنمط التدخل العسكري بالجيوش الذي اسفر عن خسائر كبيرة لحقت بالجيش الأميركي منذ فييتنام مرورًا بافغانستان وصولًا الى العراق وغيرها من الأماكن التي تدخل فيها الجيش الأميركي، ومنها لبنان بعد الإجتياح الصهيوني عام 1982.على الضفة الأخرى، يبدو الجانب الروسي متمهلًا وغير مستعجل في رسم مساره في المنطقة والذي يعتبر سوريا جزءًا من ملفاته وليس كلها، فهناك مشكلة اوكرانيا والقوقاز والعديد من الضغوطات المتمثلة بنشر الأميركيين لمنظومات صاروخية في اوروبا وآخرها في رومانيا والتي تستدعي من الروس الكثير من الحذر، فهم في وضع يشبه المتنقل بين حقل للألغام يحاولون تفكيكه ببرودتهم المعهودة والعمل على استنفاذ كل الأوراق قبل الدخول في مواجهات مفتوحة.هذا الكلام عن الجانب الروسي ليس تبريرًا لسياستهم، بل يحمل في طياته نقدًا لبعض مسلكهم في التعاطي مع الحرب على الأرض السورية.وللمرة الأولى، اسمح لنفسي بالقول بمعزل عمّا قدمناه سابقًا من توصيف للصراع في الأشهر الأربعة الفائتة، إنّ الجانب الروسي اخطأ في توقيت تقليص قواته الجوية واستعجل العمل على اصدار القرار 2268 لوقف الأعمال العدائية، دون أن يضغط في اتجاه استكمال آليات لتنفيذ هذا القرار ودون استكمال موضوع تصنيف الجماعات المسلحة، اضافة الى عدم الضغط في تنفيذ مضمون القرار 2253 القاضي يتجفيف منابع الإرهاب ومن ضمنها اغلاق منافذ عبور المقاتلين والأسلحة، والإكتفاء بتوثيق الخروقات وتحميل الأتراك مسؤولية تسهيل مرور المقاتلين والسلاح.وهنا يبرز سؤال هام جدًا: هل هذا كل ما يستطيع الروس القيام به، وهم العارفون أنّ من خرق الهدنة هي اميركا، وإن كان المنفذ الميداني الجماعات المسلحة المدعومة من تركيا والسعودية؟الروس الذين يعلمون ايضًا أنّ تحريك المعركة في حلب يستهدفهم في مكان ما، وهم لا يخفون علمهم ومع ذلك يستمرون في عقد لقاءات مع الجانب الأميركي ويحاولون التوصل الى صيغة تثبت الهدنة الدائمة التي استبدلوها بصيغة التهدئة بالتقسيط مع جماعات لم تلتزم القرار 2268 لوقف الأعمال العدائية ولن تلتزمه أبدًا، وعلى رأس هذه الجماعات جبهة النصرة التي تعتنق فكرًا يعتبر سوريا ساحة جهاد وليس دولة لها سيادتها واستقلاليتها. والأخطر ما يحصل هذه الأيام من محاولات للقول بانفصال جبهة النصرة عن تنظيم القاعدة الأم وانها تنظيم سوري يجب ان تشمله الهدنة، ما يُخرج مناطق ادلب وارياف حلب من دائرة استهداف الروس والجيش السوري، علمًا أنّ سيف العدل وهو احد اكبر القادة في تنظيم قاعدة الجهاد قد أُعلن منذ فترة عن وصوله الى سوريا، ما يؤشر الى احتمالات التصعيد خصوصًا انه من الذين وضعوا نظريات عديدة لأساليب وانماط "الجهاد" في اغلب ساحات المواجهة، وهو من الداعين الى عدم التمسك بنمط محدد وتغيير هذه الأنماط بما تقتضيه الحاجات والمراحل ومن ضمنها اعتماد مسميات متغيرة او التملص منها اذا كان في الأمر خدمة للهدف.في المباشر، من مصلحة الدولة السورية وحلفائها الوصول الى حل سياسي على قاعدة جنيف ولقاء فيينا والقرار 2254، إلا أنّ هذه الرغبة لدى سوريا وحلفائها تصطدم بمواجهة من الطرف الأميركي وحلفائه بالوصول الى حل يخالف موازين القوى ويحقق خرقًا كبيرًا في تركيبة السلطة تشمل الحكومة والجيش، يشابه الى حد كبير نموذج العراق ولبنان بحيث يصبح امر تشكيل الحكومات وادارة البلاد قائمًا على المحاصصة، وإلا فإنّ البديل هو الفوضى ورسم خطوط تماس تؤول بعد فترة الى التقسيم بحكم الأمر الواقع، وهي وجهة النظر التي يعمل عليها الأميركيون ويعتبرون جنيف مجرد منصة يمكن من خلالها القول إنّ اي شراكة بين السوريين هو امر متعذر وغير قابل للحياة وأن لا بديل الا بتقسيم سوريا بشكل يشكل مقدمة لنموذج يُعمل فيما بعد على تعميمه، خصوصًا أنّ العراق أيضاً ليس بعيدًا عن هذا الطرح.امام هذه الوقائع الضاغطة، هل سيكتفي الروس بالسجال الديبلوماسي وتسجيل النقاط ام انهم سيمتلكون شجاعة الإعلان عن الإستمرار في المواجهة في ظل هذا المستوى غير المسبوق من الخبث الأميركي، الذين على ما يبدو يستهوون هذه الفترة العمل بقاعدة الجزرة والعصا التي يدركها الروس تمامًا؟بتقديري، إنّ هذا الجو من المراوحة ومحاولة الأميركيين تثبيت خطوط حمراء لا يمكن تجاوزها إلّا بقراءة جديدة بين سوريا وحلفائها لطبيعة التعقيدات الجديدة، واتخاذ القرار المناسب في اسرع وقت للخروج من حالة الإستنزاف الحالية، واستكمال المواجهة بآليات وانماط جديدة قد تكون وضعت على نار حامية وبدأ العمل عليها وربما نرى نتائجها قريبًا.*ضابط سابق - خريج الأكاديمية العسكرية السوفياتية.عمر معربوني - سورية الحدث -
التاريخ - 2016-05-12 2:37 PM المشاهدات 864
يسرنا انضمامكم لقناتنا على تيلغرام : انقر هنا